إسرائيل ولبنان- تصعيد الحرب وخيارات حزب الله الصعبة.

منذ الأسبوع الفائت، كثفت إسرائيل هجماتها على الأراضي اللبنانية، وذلك في سياق سعيها المحموم لتحقيق أهداف معلنة، تتلخص في استعادة الاستقرار والأمن المفقودين على حدودها الشمالية، بالإضافة إلى القضاء على التهديد الذي يمثله حزب الله، والذي يقف حائلاً دون عودة آلاف الإسرائيليين النازحين إلى ديارهم.
على مدى ما يقارب العام، لم تفلح الإستراتيجية الإسرائيلية القائمة على حرب الاستنزاف في ثني حزب الله عن مواقفه، أو إجباره على التخلي عن ربط وقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية بإنهاء العدوان على غزة، وانسحاب قواته إلى ما وراء مجرى نهر الليطاني.
في الوقت الراهن، يتذرع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بهذا الإخفاق وتفاقم الحاجة الملحة لإعادة السكان إلى مناطق الشمال، وذلك بهدف إضفاء شرعية داخلية وخارجية على قراره بتوسيع رقعة الحرب في لبنان، وربما دفعها لاحقًا نحو تصعيد شامل، قد يتضمن اجتياحًا بريًا، وذلك تحت ستار التخلص من خطر حزب الله. ومع ذلك، يدرك الكثيرون في الداخل والخارج على حد سواء أن مقاصد نتنياهو الحقيقية في لبنان -كما هو الحال في غزة- تتجاوز بكثير الأهداف التي يصرح بها للرأي العام الإسرائيلي والدولي.
تشير نتائج عام كامل من الحرب الإسرائيلية الطاحنة على قطاع غزة إلى أن الأهداف التي حددها نتنياهو تختلف اختلافًا جوهريًا عن الإستراتيجية التي يتم تطبيقها على أرض الواقع.
فكما كانت أهداف القضاء على حركة حماس، واستعادة الأسرى، ومنع تحول غزة إلى تهديد مستقبلي، مجرد ستار لمشروع يهدف إلى إخراج القطاع من معادلة الصراع عبر القتل الجماعي، والتدمير الممنهج، والتهجير القسري، ومحاولة تغيير الوضع القائم في الضفة الغربية، فإن أهداف إنهاء تهديد حزب الله للحدود الشمالية، وإعادة النازحين، لا تعدو كونها واجهة لهدف أسمى، يتجسد في إعادة صياغة قواعد الاشتباك مع حزب الله، وتقويض قدراته العسكرية إلى أدنى المستويات، وربما السعي إلى تدميره بالكامل، حتى لو استلزم ذلك اجتياحًا بريًا للأراضي اللبنانية، وإعادة احتلال أجزاء منها، في إطار مشروع يرمي إلى إقامة منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي، تمتد لعشرات الكيلومترات في العمق.
وقد باشرت إسرائيل بالفعل العمل على تنفيذ هذا المخطط منذ عدة أشهر، من خلال التدمير الواسع النطاق والممنهج للقرى اللبنانية الحدودية، بهدف إجبار سكانها على مغادرتها بشكل نهائي، وليس مجرد نزوح مؤقت.
مما لا شك فيه أن التكاليف المترتبة على تحقيق المطامح الإسرائيلية في لبنان تفوق بأشواط تلك التي تكبدتها إسرائيل في حرب غزة، وذلك لثلاثة أسباب جوهرية؛ أولها أن الترسانة العسكرية الهائلة التي يمتلكها حزب الله قادرة على إلحاق أضرار جسيمة وغير مسبوقة بإسرائيل، لا سيما إذا تحولت هذه الحرب إلى صراع شامل، وثانيها أن مثل هذه الحرب قد تنزلق بسهولة إلى صراع إقليمي أوسع نطاقًا، يجذب أطرافًا فاعلة أخرى مثل الولايات المتحدة وإيران، مما يزيد من التداعيات الإقليمية والدولية، وثالثها أن أي اجتياح بري إسرائيلي محتمل للبنان لن تكون تكاليفه أقل فداحة من الاجتياحات الإسرائيلية السابقة، ولن تختلف نتائجه عنها من حيث التورط الحتمي في مستنقع حرب استنزاف طويلة الأمد لا يمكن الانتصار فيها على الإطلاق.
من المؤكد أن نتنياهو يضع هذه الاعتبارات والتكاليف المحتملة في الحسبان عند التخطيط للخطوة التالية في لبنان، لكنه لم يتعامل مع حربه على غزة ولا حربه الحالية ضد حزب الله من زاوية التكاليف فحسب، بل أيضًا من منظورين آخرين لا يقلان أهمية، وهما الفرص التي خلقتها إسرائيل لنفسها لإعادة تشكيل موازين القوى في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والإقليمي، وإعادة صياغة سياسة الردع، فضلاً عن الظروف الإقليمية والدولية التي ساعدتها -ولا تزال تساعدها- في محاولة تحقيق أهدافها الكبرى في هذه الحرب.
لقد أحدث هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول تحولًا جذريًا في نظرة إسرائيل إلى كيفية التعامل مع التهديدات المحيطة بها، وهي لم تصمم إستراتيجيتها في هذه الحرب بهدف معاقبة حركة حماس أو حزب الله وإيران واستعادة الردع الذي كان سائدًا قبل ذلك التاريخ، بل من منطلق الفرص التي أتاحتها الحرب لها لمحاولة إحداث تغيير عميق في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي صراعها المباشر مع حزب الله في لبنان، وفي صراعها بالوكالة مع إيران، وفق رؤية نتنياهو الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وعندما قرر حزب الله الانخراط في الحرب لمساندة غزة، فإنه صمم هذا الانخراط بصورة أساسية أيضًا للتكيف الاستباقي مع المقاربة الإسرائيلية الجديدة للتعامل مع التحديات، وردع سيناريو الحرب الشاملة ضده.
لقد كان للانضباط الشديد الذي أظهره حزب الله في إدارة حرب الاستنزاف خلال الفترة الماضية دور هام في ثني إسرائيل عن توسيع نطاق الحرب ضده، لكن الواقع الحالي يشير إلى أن هذا الانضباط والصبر الإستراتيجي لم يمنعا نتنياهو من تصعيد وتيرة الحرب، وقد لا يمنعانه في المستقبل من شن غزو شامل على الأراضي اللبنانية.
يجد حزب الله نفسه اليوم في مفترق طرق، حيث يواجه خيارًا صعبًا بين التراجع أو التعايش مع الإيقاع الإسرائيلي المتصاعد التكاليف لحرب الاستنزاف، أو إظهار المزيد من القوة والنفوذ؛ لاستعادة توازن الردع المفقود، إلا أن جميع هذه الخيارات تنطوي على مخاطر جسيمة.
إن الطريقة التي سيتعامل بها حزب الله، ومن خلفه إيران، مع الإيقاع الإسرائيلي للحرب، ستحدد إلى حد كبير مدى استعداد الطرفين للانجرار إلى حرب شاملة، لكنها لن تغير على الأرجح الكثير في حسابات نتنياهو وإستراتيجيته بعيدة المدى.
قد يبدو من الحكمة ألا يتخلى حزب الله بشكل كامل عن سياسة الانضباط في رد الفعل، انطلاقًا من اعتقاده الراسخ بأن الحرب الشاملة ليست أمرًا حتميًا، وأن طهران ستبادر إلى الدعوة إلى خفض التصعيد الإقليمي، وتقديم عرض مغرٍ على الغرب باستئناف المفاوضات النووية، وذلك لتحفيزه على ردع إسرائيل عن تصعيد الحرب على لبنان، غير أن إظهار المزيد من التردد في هذا التوقيت الحساس قد يرسل أيضًا رسائل ضعف غير محمودة العواقب، وهو ما يحتاجه نتنياهو بشدة لتضليل الرأي العام الإسرائيلي، والإيحاء بأنه قادر على إنجاز مهمته الجديدة في لبنان بتكاليف مقبولة و بنصر مؤكد.